اصلاح ديني

قضية الاصلاح الديني و معضلة الثوابت(٤)

3. سابقة اليهود والمسيحيين في الإصلاح الديني الجاد

أ. نقد النصوص الدينية

المسلمون ينظرون إلى الإصلاح اليهودي/المسيحي باستنكار وتعال غير مبرر؛ فالحق أن حال الأوروبيين في شأن الإصلاح الديني يعكس حالهم الحضاري المتفوّق، ولكن الفرق هو أننا كمسلمين نرى تفوقهم الحضاري المادي ونقرّ به غالبا، ولكننا نغفل عن تفوقهم علينا في أمر الإصلاح الديني، ونظن أن ما صنعوه في هذا المجال لا يعدو أن يكون جزءً من حالة النفور العام من الدين عندهم. ينبغي علينا أن نميز بين التدين الذي يعكس قدر التزام الناس بالدِّين قوة أو ضعفا، وبين الإصلاح الديني كعمل فكري فيه كثير من البحث العلمي الرصين. تفوق الغربيين في البحث العلمي ينطبق على الدين كما ينطبق على العلوم التطبيقية وغيرها، وهذا ليس في ما يخص الدراسات اليهودية/المسيحية فقط، بل هم الآن يتفوقون على المسلمين حتى في دراسة الإسلام. وفهم هذا ليس عسيرا؛ فالغربيون لا قيود عليهم في دراسة الدين دراسة موضوعية أكاديمية لا تأخذ بالمسلمات العقائدية كمسلمات بحثية، بل تعتبرها مادة للدراسة والبحث. قد يختلف الناس حول جدوى دراسة المسائل ذات الطبيعة الغيبية المحضة كوجود الله أو البعث والحساب دراسة أكاديمية صارمة، ولكن لا شك أن كثيرا من المسائل التأسيسية في الدين تقع داخل مجال الدراسات الأكاديمية في التاريخ واللغة والقانون والاجتماع وغير ذلك، وتفوق الغربيين في هذا المجال غير خاف. والحق أن سلوكنا تجاه دراسات المستشرقين في الدين يفتقر إلى الموضوعية في كثير من الأحيان. فالنقد الشديد الذي مارسه الغربيون على اليهودية والمسيحية نجده مبررا لأننا نرى هذه الديانات محرّفة ويغلب على مقولاتها الفساد. بينما نرى نقدهم للإسلام تعديا على ما لا اختصاص لهم فيه ومؤامرة لطمس الحق. وهذا ما كان ليُستنكَر لو أنه قيل بأدلته، ولكن الغالب هو أن مبدأ النقد نفسه مستنكَر. فالمقولات الدينية عندنا ليست مجالا للنقد والبحث الموضوعي، لأنها ليست مقولات وضعية، بل وحيانية منزَلة. والاستبشاع الذي يقابَل به أي كلام عن دراسة نقدية للقران مردّه إلى الظن أن النقد موجه لكلام الله، بينما الحقيقة هي أن المقصود هو المصحف الذي يحتوي على نص لغوي منسوب إلى محمد بن عبد الله الذي عاش في القرن السابع الميلادي، والذي نُسب إليه أنه قال إن هذا الكلام وحي من الله تعالى. وحتى المؤمن بنبوة محمد وتلقيه الوحي من الله تعالى يظل بإمكانه أن يكون موضوعيا وناقدا في دراسته لصحة نسبة المصحف الحالي إلى النبي؛ فهذا الأمر لا يعدو أن يكون مجموعة من المقولات والحجج لعلماء الإسلام تحكي عن سلامة عملية كتابة القرآن ثم جمعه في أكثر من مناسبة تاريخية، إضافة إلى تواتر النقل الشفهي له مع التأكيد أن ما تواتر نقله قُطِع بصحته. وهذه المقولات بدورها موجودة في مخطوطات عمرها مئات السنين والحكم بصحة ما فيها ينبغي أن يكون أيضا موضوعا للدراسة والنقد؛ وهكذا نتتبع مصادر المقولات الدينية بالبحث والتنقيب الجاد، حتى يصل بِنَا الأثر إلى فم النبي الكريم أو ينقطع دون ذلك. والمؤسف هو أن هذه الممارسة العلمية الرشيدة كانت هي نهج العلماء الأوائل (وإلا فكيف اختلفوا حول الرسم والقراءات بل والنص نفسه؟!)، ولكن لم يلبث أن بدأ الدين يتحجر، حتى وصلَنا صخورا صماء اتخذتها فِرَق المسلمين معابد أو معبودات.

ب. الإصلاحات الفلسفية والعقائدية في المسيحية

هذه الإصلاحات شملت بعض التأسيسات الفلسفية مثل فكرة 

لإبستمولوجيا المحسَّنة Reformed Epistemology التي تقول إن الإيمان بالله يمكن أن يكون من البديهيات التي لا تقوم على الدليل. والفكرة مطروحة كنظرية فلسفية لا فكرة صوفية وهذا تمييز مهم. وهناك أيضا نظرية التوحيد اللايقيني Sceptical Theism التي تحاول تفنيد قول من يطعن في وجود إله بسبب وجود الشر في العالم. هذه النظريات وغيرها لا تزال جدلية جدا وربما كثيرة القصور، ولكن فيها إشارة إلى أن العقل المسيحي قد بدأ يفكر في الدين بحرية جديدة لم تكن متاحة من قبل. ولكن الإصلاحات الأبرز تظهر في إصلاحات الكنيسة الكاثوليكية وتخليها عن كثير من المفاهيم القديمة التي كانت راسخة لألفي عام. ومن ذلك فكرة حصرية الخلاص على الكاثوليك، الكنيسة الآن تقول إن الخلاص يمكن أن يشمل اليهودية والإسلام،  بل هناك تيار عند المسيحيين الآن، يدعو إلى فكرة الخلاص لكل البشرية. كذلك، فإن فكرتهم عن النار تغيرت من شكلها القديم كنار مادية حارقة تعذب المذنبين والكافرين ببشاعة كتلك التي صورها دانتي في الكوميديا الإلهية، إلى مفهوم رمزي كالإحساس بالخزي أو البعد عن رضوان الله. هذه المراجعات مهمة جدا، رغم أنها تبدو مفتقرة للعمق والصدق، وهي في الغالب مدفوعة بضغط المجتمع الحديث الذي لا يقبل الدين في شكله الأسطوري القديم، ولكنه لا يستغني عنه في بعده الروحاني الأخلاقي. الكنيسة رأت الناس يتركون الدين بسرعة لم يتخيلها شيطان إيفان المذكور في بداية المقال (قدّر للأمر ألف سنة وعزا ذلك لغباء البشر!)، لذلك سارعت بمراجعة مقولات كانت في السابق من الثوابت. الفارق الرئيس للإسلام عما حصل في المسيحية هو التأخر الحضاري ولكن المسار هو ذات المسار، رغم الاختلافات الطفيفة بين الحالين. يجب أن لا يغيب عنا التشابه الشديد بين الإسلام والمسيحية من جهة، والمسلمين والمسيحيين في مسارهم الحضاري من جهة أخرى، بل إن المسلمين يسيرون في درب الحضارة الحديثة مقلّدين لا صانعين وهذا يعقّد مهمتهم كونهم يعانون إشكالات الحضارة ولا يَحكمون مسارها. ولكن للإسلام ميزة على المسيحية في شأن الإصلاح الديني، وهي أنه لا توجد فيه قيادة دينية مركزية تنطق باسم الله كما تفعل الكنيسة في المسيحية، بل فضاء الاجتهاد مفتوح في الإسلام لكل الناس. حتى القيود التي توضع أحيانا على مؤهلات المجتهد أو مناهج الاجتهاد تظل أمورا اجتهادية في نفسها لا تمنع الاجتهاد العام، وإن ضيّقت عليه. الدوغما في الإسلام منبعها الإجماع في الأساس، السلطة الدينية متوسّلة إلى الجمهور في سلطتها، حتى وإن ادّعت غير ذلك. صحيح أن إنتاج الأفكار في الإسلام يكون عند النخب، ولكن ما يميز الإسلام أن هذه النخب متعددة المراكز ومتنوعة المذاهب لا تنتهي رأسيا إلى سلطة فوقية واحدة كالكنيسة. لذلك، فإن “تأليه” أية فكرة، بمعنى اعتبارها أمر الله أو مراده، يكون قاعديا في الإسلام. ورغم أن هذه الخاصية تعني أن تكسير المسلمات قد يكون أعسر مما هو الحال في السلطة المركزية، إلا أن المسلّمات في المقابل تتعدد بما ينشئ حالة من القبول الفطري للتنوع، وتنوع الأفكار حول موضوع معين ينفي عنه الثبات المطلق، وفي هذا ميزة تستحق الانتباه. صحيح أن الكنيسة تستطيع أن تنسف ثابتا ما بقرار بابوي كما تستطيع أن تقيم غيره، وقد فعلت ذلك في الواقع كما ذكرت، لكنها وبسبب سلطتها المطلقة في أمر الدين لا تجد اضطرارا إلى ذلك إلا نادرا. لذلك، فإنها قليلة الحساسية تجاه الاختلافات الفكرية في الإطار المسيحي، شديدة البطء في تغيير أي ثابت ديني. عليه، فعندما تُجري التغيير، فإنه عادة ما يبدو خضوعا لضغط التيار المتحرر في المجتمع ومحاولة لتدارك النفور العام من الدين، وليس مراجعة صادقة هدفها إدراك الحق. الإسلام ليس بمعزل عن الضغوط الاجتماعية هذه، ولكنه يمتاز بأن فضاء التفكير فيه مفتوح لكل باحث عن الحق، والبحث عن المعنى الديني أو مراد الله ليس حكرا على شخص أو مؤسسة معينة، بل هو شأن كل المسلمين. ولعل الإسلام بسبب ضعف المسلمين الحضاري الْيَوْم ليس أقرب الأديان إلى المراجعات العميقة الجادة، ولكنه في المقابل، وبسبب الحرية الفطرية فيه، هو أقربها إلى المراجعة الصادقة، وهذه غاية الآمال.

ختاما، فقد درج الناس على التمثيل لحالة الكشف الروحي أو الهداية الدينية، إذا حصلت فجأة بأنها رؤية النور، يقولون فلان رأى النور. ولكن الرهبة الشديدة من المؤمنين تجاه موضوع الثوابت الدينية هي أقرب لحالة تسليط الضوء مباشرة على العينين، فتغدو مادة الهداية سببا في العماية. لكي نرى، نحتاج أن نحفظ مسافة بيننا ومصدر الضوء؛ فالعبرة أن يضيء ما حولنا، فنمشي لا أن يتسلط علينا فنكمُن. ومفتاح الذهن المغلق هو أن يرى أصفاده.

لعلي علي.

مؤسسة مؤمنون بلا حدود- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate