اصلاح ديني

قضية الاصلاح الديني و معضلة الثوابت(٣).

2. سطحية محاولات الإصلاح/ التجديد حتى الآن

أ. نقد السنة

المفارقة هنا أن حجّية السنة كانت، ولا زالت في كثير من الأحيان، من الثوابت التي لا ينبغي أن تتغير في الإسلام، ولكنها الآن صارت الهدف الأساسي لدعاة الإصلاح أو التجديد، وهذا يمكن فهمه من وجهين؛ الوجه الأول هو الامتحان العسير الذي تخوضه المقولات الدينية التي تعتمد على السنة في مواجهة الحداثة، حيث يبدو الكثير منها غير مناسب ولا منطقي في إطار الحياة المعاصرة. الوجه الثاني هو وجود القرآن كثابت أخير تُلقَى عليه حمولة ثبوت الدين وقداسته. المشكلة هي أن فكرة الثبوت نفسها تظل ثابتة، رغم تغير مواضعه. كأنما هنالك قدرا ثابتا من اليقين الديني لا يجوز تغييره ولكن تجوز اعادة توزيعه، وكل ما قام به الإصلاحيون نُقَّاد السنة هو أنهم نزعوا اليقين عنها ثم أضافوه إلى القرآن. لذلك، تجد أن النص القرآني أشد جمودا وتحجرا عند نُقَّاد السنة مما هو عليه عند أهل الحديث، فهم لا يقبلون روايات جمع القرآن لما تظهره من إشكالات ولا يقبلون النسخ ولا الكلام عن نقص القرآن. المشكلة الثانية هي أن المقولات الدينية بعد أن فقدت الحديث النبوي كمصدر لها لم تستطع أن تعوِّض بالقرآن، لأنه أقل شمولا وتفصيلا في تناول القضايا، فانحصر أثر ترك الحديث في الغالب على ما بدا معارضا للقرآن، وهو قليل كما أن التعارض مفسَّر ومخرَّج عادة. ليس غريبا اذن، أن يكون نقد السنة ضعيف الأثر في إطار الإصلاح الديني كون الإشكال لم يكن في ضعف المصدر، وإنما في قبول التغيير.

ب. مقاصد الشريعة

ذات الأمر ينطبق على فكرة مقاصد الشريعة، حيث وُسِّع إطار أصول الفقه بوضع مقاصد كلية عامة يراعيها الأصوليون عند وضع التشريعات. نظريا، هذا منهج حكيم، لأنه يُخرج عملية استخراج الأحكام من ربقة النص المصوَّب نحو المسألة إلى عمومية المقصد المُستَقرأ من مجموع النصوص المعنية بعموم المسألة. ولكن الواقع أن الإصلاحيين عجزوا عن الالتزام بهذا المنهج حتى نهاياته، لأنهم اصطدموا بـ “ثوابت” لم يجرؤوا على تغييرها، ولَم تزل تلك المعضلة الفقهية قائمة، حيث يدور الحكم مع العلة عوضا عن المقصد أو الحكمة. مثال الربا هنا واضح. كل الآيات القرآنية التي تكلمت عن الربا تكلمت عنه في سياق مخالفته كمعاملة مالية للصدقات والزكاة. الذي يستقرئ نصوص الربا في القرآن، حسب منهج المقاصد، يجد أن المقصد من تحريمه هو منع الظلم بين الناس واستغلال صاحب الحاجة في ساعة عسرته. ولكن تحريم فوائد البنوك الْيَوْمَ لا يقوم على هذا المقصد، بل على العلة التي هي الزيادة على رأس المال، بغض النظر عن أحوال المتعاملين أو احتمال حصول الظلم. والسبب ببساطة هو أن العلل تؤخذ مباشرة من النصوص، والنصوص ثابتة، بينما المقاصد مُستَقرأة؛ أي إن الجهد الفكري فيها أوضح، وهذا محتمل التغيير. هذا الأمر فيه إشارة مهمة. هناك ميل تلقائي، وكأنه فطري، عند المؤمنين نحو الثبات في أمور الدين، ونفور من التغيير. ولا أدري إن كانت علة ذلك هي إلحاح الأصوليين القدامى على مسألة الثوابت حتى ألِفَها الناس وصارت طبيعة في التدين، أم إنها ارتباط الدين بالغيب، والله الذي هو في عقيدة المؤمنين ثابت لا يتغير، ولعل الأمرين سواء.

ج. إشكال الحداثة

الحداثة التي أشير إليها هنا هي عصر ما بعد الثورة الصناعية؛ لا شك أن النقلة التي حصلت في المجتمع الإنساني في هذا العصر ضخمة بالقدر الذي ربما لا توازيها أية نقلة أخرى في محطات الاجتماع الإنساني سوى مبتدأ الحضارة باكتشاف الزراعة. فمنذ بداية الحضارة ظل الإنسان يستخدم، على سبيل المثال لا الحصر، الدواب في النقل والسيوف في الحرب والورق أو الرواية في الاتصال والنشر، سبعة آلاف سنة لم تتطور هذه الوسائل إلا بالقدر اليسير، ثم، وبعد الصناعة، قفزت قفزات هائلة في مائتي عام فقط! هذا التغيير الهائل في مقومات المجتمع الإنساني لا يمكن أن يمر على الدين بلا تأثير، وجدير بالتأثير أن يناسب قدر التغيير. تأثير الحداثة له مناح عديدة في الدين ولكن المقصود في سياق موضوعنا هو ذلك التأثير الذي يمهد للإجابة عن السؤال الذي يواجه كل من نادى أو عمل لتغيير معهود الدين: كيف عرفت من الدين ما لم يعرفه كل علماء المسلمين في أربعة عشر قرنا، وهم أقرب إلى زمن النبوة، وفي الغالب أكثر صلاحا وعلما؟ الإشارة هنا ليست فقط إلى نسبية التشريعات أو المفاهيم، كأن نقول إن الحداثة تستدعي تغيير بعض التشريعات أو المناهج التي صحت في الماضي لتناسب زمنا مختلفا. بل الإشارة أقوى هنا إلى أن الحداثة ساعدت في الكشف عن أخطاء في التشريعات أو المناهج ظلت قائمة طوال أربعة عشر قرنا دون أن ينتبه إليها أحد. ولا غرابة في ذلك، فالأمر لا يقتصر على الدين حيث تصححت بعد الحداثة مفاهيم شتى في علوم مختلفة ظلت سائدة منذ بدء الحضارة. كثير من المقولات التي أنتجها الفكر الإنساني ظلت في حصن من الامتحان لصدقها لآلاف السنين، ثم انهارت دفعة واحدة مع غزارة الأدوات التي صارت في يد الإنسانية بعد الصناعة. والأمر لا ينحصر في الماديات والكشوفات العلمية. فالتغيير الذي حصل في أدوات الإنتاج والمعرفة غيّر مناحي الاجتماع الإنساني في كل شيء، في الاقتصاد والسياسة والقانون، بل وحتى الأخلاق. لا ينبغي أن يستنكف المؤمنون أن يعرضوا ما ظنوه لزمن طويل من ثوابت الدين للامتحان والنقد بما صار في أيديهم من أدوات؛ فمعرفة الحق أولى من حفظ المعهود. مفهومٌ أن قيام هذا الانتقال الإنساني الكبير في محضن غريب سينفِّر الناس عن إخضاع مقدساتهم له باعتبار أن في ذلك انهزاما ثقافيا. ولكن واقع الحال هو أن تقلبات الحضارة، والحداثة إحداها، هي في مجموعها إرث مشترك للإنسانية، ورغم أن قيام الصناعة وما تبعها من تغيير في المجتمعات الإنسانية كان وظل في الغالب غربي الموطن، إلا أن لكل الثقافات الإنسانية فيها نصيب. وفوق ذلك، وإن اعتبرنا أنها غريبة خالصة، فالحق أحق أن يُتبع. وإنكاره لغُربته كِبْر لا يليق بصادق في طلب الحق. صحيح أن الصراع بين الثقافات يجعل الآخر، الغرب مثالا، في خصومة مع غيره، المسلمون مثالا، دافعها قبائلي فقط، إنكار ذلك سذاجة. وصحيح أيضا أن مواجهة مثل هذه العداوات واجب، التخاذل عنه لا يجوز. ولكن لا بد من التمييز بين الصراع القائم على عصبية الهوية تجاه الآخر، والاختلافات الطبيعية بين الثقافات والتباينات اللازمة بين الحضارات في كل زمن. فالحضارة لها دولة بين الأمم تعلو لنا حينا، ثم تهبط حين تعلو لغيرنا، وليس التنكر لها حين تغترب سوى كِبْر وحماقة.

لعلي علي.

مؤسسة مؤمنًون بلا حدود- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate