ثقافة

السياب رائد الحداثة الشعرية (١)

بدر شاكر السيّاب: رائد الحداثة في الشعر الحر

إعداد محمود أبو حامد

وُلد السيّاب يوم 25 ديسمبر 1926 ورحل 24 ديسمبر 1964

بدر شاكر السيّاب .. الشاعر الذي لم ينصفه الحب

كان لوفاة والدته أعمق الأثر في حياته

من أقواله:«الكابوس الأحمر» نسف كل أسس الشعر ومواضيعه.

ولد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في قرية جيكور، 24 ديسمبر 1926، وهي قرية صغيرة تابعة لقضاء أبي الخصيب في محافظة البصرة، وكان عدد سكانها في ذلك الوقت لايزيد عن 500 نسمة، وبيوتها بسيطة مبنية من طابوق اللبن، لكن تحيط بها مساحات خضراء وبساتين وارفة الظلال تنتشر فيها الفاكهة بأنواعها، وأشجار نخيل و أنهار صغيرة تأخذ مياهها من شط العرب، وحين يرتفع المد تملأ الجداول بمائها… وكان جوها الشاعري الخلاب أحد ممهدات طاقة السياب الشعرية وذكرياته المبكرة فيها التي ظلت حتى أخريات حياته تمدّ شعره بالحياة والحيوية وصور الطفولة.

وفاة والدته

فقد السياب والدته عام 1932 ولم يتجاوز السادسة بعد، وكان لوفاة أمه أعمق الأثر في حياته، وأمتد تأثير فقدها إلى أغلب شعره؛ فنقرأ مثلاً من قصيدته المشهورة «أنشودة المطر».

تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال

تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال:

كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام

بأنّ أمّه – التي أفاقَ منذ عام

فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال

قالوا له: «بعد غدٍ تعود»

لا بدّ أنْ تعود

واستمرت محنته العاطفية التي بقيت ملتهبة الجراح حتى بعد زواجه، وبقي جريح الحب باحثاً عمن تبادله الحب، فرغم علاقاته التي تنوعت ما بين حب المراهقة مع الراعية هالة، إلى لبيبة التي كبرته بسبع سنوات في دار المعلمين إلى الشاعرة لميعة عباس التي كانت تصغره بثلاث سنوات ودرست معه في دار المعلمين لكن بمرحلة مختلفة وقسم آخر، وليلى الممرضة والصحفية البلجيكية لوك التي كانت مهتمة بترجمة قصائده إلى الفرنسية وقد فعلت ذلك، إلا أنه لم يجد من تبادله هذا الحب الذي كان يحلم به أو يستحقه، الأمر الذي يعود لأسباب متعددة منها ما يخص هيئة السياب وشكله وهو ما أثر فيه نفسيا إذ كان يرى نفسه دميماً، ومنها ما يعود إلى أسباب مادية وطبقية، وهو الذي عانى ما عاناه من الفاقة وقلة ذات اليد والشح أو أن مشاعر الحب كانت استجدائية كما في حالة لوك التي اعترفت له أنها تحب شخصا آخر.

بينه وبين الحب

بعد أن أنهى بدر الدراسة الابتدائية انتقل إلى الدراسة الثانوية في قطاع العشّار حيث سكن مع جدته لأمه، وفي عام 1941 بدأ شاكر الانتظام بكتابة الشعر، الذي التزم فيه بكتابة الشعر العروضي ومواضيعه الكلاسيكية وهو الذي تأثر بالشاعر أبي تمام، قبل أن يشهد شعره الثورة على الكلاسيكية واللحاق بالرومانطيقية والحداثة فيما بعد.

في عام 1943 التحق بدر بدار المعلمين في بغداد، واختار قسم اللغة العربية، وسكن القسم الداخلي، وتعد هذه المرحلة التي بزغ فيها نجم السياب الشعري، وكذلك أظهرت ميول السياب الشيوعية المعادية للرأسمالية، وفي هذا المعهد وقع في شراك فتاة من طبقة الغنية وأحبها بدر إلا أنها كان يبدو أنها غير جادة في علاقتها ببدر بسبب فرق المكانة الاجتماعية بينهما إذ يقول:

بيني وبين الحب قفر بعيد

من نعمة المال وجاه الأبِ

يا آهتي كفّي … ومت يا نشيد

شتان بين الطين والكوكبِ

بالرغم من نتائجه الجيدة في الموسم الدراسي 1944-1945 إلا أن السياب ترك قسم اللغة العربية متحولا إلى قسم اللغة الإنجليزية اعتقاداً منه أن قسم اللغة العربية لن يقدم له أكثر مما قدم وأن عليه البحث عن تجارب ومصادر جديدة ينهل منها، وكان له ما أراد فتعرف على الشعراء الإنجليز الرومانطيقين أمثال ورودزورث وكيتس، وتعرف على ت. س. إليوت الذي تأثر به وقصيدته الأرض اليباب، وساعدته الدراسة في قسم اللغة الإنجليزية العمل في الترجمة سواء في الصحف أو المجلات.

استمرت الأوضاع السياسية في العراق تلقي بظلالها على حياة السياب، فبعد أن هددت المعارضة مقاطعة الانتخابات في عام 1952، واجتاحت المظاهرات العاصمة الأمر الذي أدى لتدخل الجيش لإعادة الأمن، وكان بدر ضمن المشاركين في المظاهرات، التي لحقتها حملة اعتقالات، اعتقل فيها عدد من أصدقائه فخاف بدر أن يتم اعتقاله أيضا فهرب إلى البصرة. وضع بدر لم يستقر بعد أن قضى بعض الوقت في المحمّرة وسافر بجواز سفر إيراني الذي ساعده بالحصول عليه علاقاته بحزب توده الشيوعي الإيراني إلى الكويت. وكان وضعه في الكويت سيئا، حيث كان يستحوذ عليه الحنين إلى العراق، وما أصابه من فاقة وانعدام المال، الحال الذي صوره أشجى تصويرا في قصيدته “غريب على الخليج”.

عاد السياب إلى العراق بعد سنة من التشرد وحياة اللجوء الصعبة، ومن ثم تزوج عام 1955 امرأة قريبة له هي إقبال طه العبد الجليل، هذا الزواج الذي لم يحمل كثيراً مما توقعه وتمناه بدر في حياته، إذ ينصح بعد سنوات من زواجه صديقه مؤيد العبد الواحد قائلا: (( يا مؤيد، نصيحتي إليك إذا ما أردت الإقدام على الزواج أن تكون رفيقة مستقبلك ذات ميل للأدب على الأقل، لكي تفهم مشاعرك، وتشاركك إحساساتك. وإن لم تكن كذلك فحاول أن تحبب لها الدخول إلى هذا العالم الجميل، وكن لها الباب حتى تدخل إليه، حاول وحاول يا مؤيد ولا ترتكب الخطأ الذي وقعت فيه، إنها لم تفهمني ولم تحاول أن تشاركني إحساساتي ومشاعري، إنها تعيش في عالم غير العالم الذي أعيش فيه، لأنها تجهل ما هو الإنسان البائس الذي يحرق نفسه من أجل الغاية التي يطمح إلى تحقيقها هذا الإنسان الذي يسمونه الشاعر..)).

المرحلة الأخيرة

المرحلة الأخيرة من حياته لا سيما السنوات الثلاث الأخيرة كانت من المراحل العصيبة والتعيسة لبدر إذ كانت أعراض الشلل بادية عليه إذ أصبحت حركته صعبة، وبعد عدة فحوصات في بيروت ولندن وباريس أثبتت أن لديه مرض في جهازه العصبي، ولم تنجح المحاولات المتعددة لشفائه، وزامن هذا الوضع الصحي السيئ والذي يتردّى يوما بعد آخر مشاكل مادية، وتفكيره بزوجته وأبنائه الثلاث (غيداء وغيلان وآلاء)، ووصل الحال إلى أقصى درجات السوء في نيسان سنة 1964 إذ انتهت المدة المسموح بها من الإجازات المرضية والإجازات العادية وكذلك الإجازات المرضية بنصف راتب التي يسمح بها قانون عمله في مصلحة الموانئ العراقية في البصرة. وبدأت بعدها إجازة من مئة وثمانين يوما بدون راتب. في هذه الفترة وبترتيب من صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي الذي كان له ما أراد، وسافر بدر إلى الكويت للمرة الثانية في تموز عام 1964 لكن مريضا يرجو الشفاء من مرض وصل لمرحلة خطرة جداً أعجزته عن الحركة. وبقي السياب في المشفى حتى وفاته في الرابع والعشرين من كانون الأول عام 1964 ، ونقل جثمانه إلى البصرة، ودفن في مقبرة الحسن البصري. وهكذا ولد السياب 24 ديسمبر 1926ومات 25 ديسمبر 1964.

«كنتُ شيوعياً»

لقد استطاع السياب أن يفجّر ينابيع الإبداع ويجعل الشعر العربي يواكب الأحداث التي مرت بها الأمة العربيّة، وينقل الشعر إلى آفاق أخرى بفضل ما يمتلكه من مواهب وقدرات شعرية فذة، ولكن ألم تواكب هذه التجربة إي كتابات نثرية؟

يسلط بعض النقاد الضوء على كتابات السياب النثرية، ويرون فيها إغناءً ودعماً لتجربته الشعرية، وإن كانت في مجملها مقدمات لأحد دواوينه أو دواوين شعراء آخرين، ورسائل تبادلها مع أدباء عصره، ومقالات وحوارات وسجالات شارك بها في بعض المؤتمرات، بما في ذلك مؤتمر روما، الذي انعقد سنة 1961. وأكثر من هذا، كتب الشاعر ما يشبه اعترافات عن واحدة من أصعب مراحل تجربته، عنونها بـ«كنتُ شيوعياً». فإلى جانب رسائله التي صدرت في سنوات متفرقة بعد مماته، ظهر للسياب هذا الكتاب عام 2007، وهو مجموعة أوراق نشرها في جريدة «الحرية» البغدادية عام 1959. وتشكل هذه الاعترافات في حد ذاتها- أيا كان السياق الذي أنتجت فيه- وثيقة من وثائق حياة السياب الأكثر وضوحًا، لأنها تحوي شذرات من يومياته بخط يده، وهي تزداد أهمية حتى في علاقته بالسياسة والسياسي. ومما يذكره السياب في علاقة الحزب الشيوعي بالشعر والشعراء، أن «الكابوس الأحمر» الذي ساد العراق منذ قيام الثورة، نسف كل أسس الشعر ومواضيعه. ويتساءل: “أين هي الشاعرة العربية العظيمة الآنسة نازك الملائكة؟” فيما يغمز إلى عبد الوهاب البياتي بقوله: “صرنا نقرأ عشرين قصيدة من برلين و51 قصيدة وسواهما من الدواوين الحمراء السخيفة ” .

برنامجه التأسيسي

‏‎وفي المقدمة التي كتبها لديوانه «أساطير»، الثاني بعد ديوان «أزهار ذابلة» الذي بشر بحركة الشعر الحُر، ورغم قصر هذه المقدمة، كثف بدر شاكر السياب وعيه التنظيري، ووعى أهمية ما هو مقبل عليه، إذ ناقش فيها أبرز الملامح الجديدة التي تطبع القصيدة الحديثة، التي يمثلها ويسعى من خلالها إلى إحداث التغيير المنشود في الشعر العربي، ومن ثمة الخروج من النمطية السائدة إلى أفق الحداثة الناشئة.

‏‎وفي سياق تلك المقدمة، التداولي بالأحرى، يرسم السياب برنامجه الشعري في بدايات بحثه عن هوية جديدة إيقاعياً وثيماتياً وبنائياً، بعد أن يكون قد شرع في تخليص قصيدته من مؤثرات المناخ الرومانسي الطاغي، وهيأ ذائقة التلقي لاستقباله. وفي ذلك، فإن هناك ثلاثة أبعاد يعبر عنها هذا البرنامج التأسيسي، لها علاقة بالنزوع السيرذاتي، التفرد والغموض والرغبة في معنى مبحوث عنه.

‏‎يرسم السياب برنامجه الشعري في بدايات بحثه عن هوية جديدة إيقاعياً وثيماتيا وبنائياً، بعد أن يكون قد شرع في تخليص قصيدته من مؤثرات المناخ الرومانسي الطاغي، وهيأ ذائقة التلقي لاستقباله.

‏‎فمن جهة أولى، يؤكد على خاصية التفرد، ليس بالنسبة إلى وعي الشاعر الحديث بها، بل في علاقتها المتوترة بالمتلقي، وكأن السياب يريد من الأخير التحرر من جهاز القراءة القديم، والارتقاء بذائقته الفنية إلى ما تُمثله القصيدة الحديثة من إمكانات تعبيرية وشعورية خاصة من جهة، ويريد من جهة أخرى أن يرفع سقف انتظاراته بالقياس إلى مضمرات شعريته الذاتية.

‏‎ثُم يتطرق إلى مسألة الغموض، الذي لجأ إليه اضطراراً، وبرره بالتكتم والشعور بالحرج وعدم البوح بكل شيء، وهو ما سيوجه مشروعه نحو الخطاب الرمزي والتباساته (رموز، أقنعة، حكايات خرافية..)، وينعكس من ثمة على أفق كتابته السيرذاتي، إذ كان على وعي بالرمز والرمزية مبكرًا؛ منذ أن اطلع على كتاب فريزر «الغصن الذهبي»، الذي ترجمه جبرا إبراهيم جبرا، ومنذ أن كثف قراءاته لرواد الشعر الرمزي الأورزبي (إليوت، سيتويل..). يقول السياب: «وهناك شيء من الغموض في بعض القصائد» ولكنني لست شاعراً رمزياً وقد كنت مدفوعًا إلى أن أغشي بعض قصائدي بضباب خفيف، وذلك لأنني كنت مُتكتمًا، لا أريد أن يعرف الناس كل شيء عن حبي الذي كانت كل قصائد هذا الديوان صدىً له، وكثيراً ما مزقتُ بعض القصائد التي كانت تشير إلى شيء تأبى هي أن يعرفه الناس». وربما لهذا الأمر علاقة بما كان يجمع الشاعر بلميعة عباس عمارة، التي رفضت أن يشير إليها مباشرة في شعره، فما كان منه إلا أن مزق بعض القصائد التي فيها شيء تأبى هي أن يعرفه الناس عن علاقتهما من جهة، ومن جهة أخرى كان عليه أن يغلف قصائد حبه هذه بضباب خفيف وغموض. ففي إحدى رسائله التي كتبها إلى خالد الشواف، التي يرجح أن يعود تأريخها إلى صيف 1946، ينعت السياب الغموض في شعره بـ«العقدة المسحورة التي أوجدتها يد العاطفة، في ساعة جنون، إذا انحلتْ فَقَد الطلسم ما كان يحمل من تمتمات عبقر».

‏‎وعدا الشعور بالحرج، لم يغفل أن يورد تفصيلةً مهمة تحمل القارئ على التعاطف معه، إذ قال: «فقدت أمي وما زلت طفلًا صغيرًا، فنشأت محرومًا من عطف المرأة وحنانها. وكانت حياتي، وما تزال كلها، بحثًا عمن تسد هذا الفراغ». وقد بقي السياب، طوال عقد الخمسينيات، يشعر بهذا الفراغ رغم زواجه، وبنفسه «رئة تتمزق» وقواه يتأكلها المرض، فيما كانت قصيدته تمتلئ بالرموز والأقنعة والوجوه الأسطورية، التي يحلم عبرها بالعود الأبدي، كأنها تعويض له عن ذلك الفراغ وقسوته في النفس والواقع معًا. وفي هذا السياق، لا نجد دارساً تناول شعر السياب لا يشير إلى أنه عقد العلاقة، في أعلى ما لها من المراتب الشعرية، بين «أبدية الرمز» الأسطوري، على نحو خاص، وحركية الحياة المندفعة بفعل الإنسان الحامل مصيره أنى اتجه، أو توجه»، على حد تعبير ماجد صالح السامرائي.

‏‎الأسطورة الشخصية

‏‎اصطبغت تجربة السياب الشعرية، على غنى مصادرها وتنوع منحنياتها، بكل هذا المزيج المتنافر، وارتقت تعبيرياً في مرحلتها الأخيرة إلى ما نصطلح عليه بـ«شخصنة الأسطورة»، إذ كانت أنا الشاعر منشغلة بخلق الأسطورة ونحت عوالمها الشخصية، ولم يكن وعي النهاية الحتمية الضاغط عليه بمنأى عما يكتبه ويتخيله، فانعكس ذلك على السجل التعبيري الذي طبعته حالات الأنا الذاتية بين الغناء والتفجع. فلم يكن بين الشاعر وما يحلم به إلا ما بين الأسطورة وظلالها من رماد الرمز وكثافة المعنى، ولاسيما أثناء «تجربة المرض» الذي فُجِع به وواجهَهُ بصبر أيوب.

‏‎وهكذا اعتكف مُبكرًا على الرمز الشخصي، وجعل له مدلولًا ذاتياً يعبر من خلاله عن معاناته التي واجهها في الحياة، ويداري به شقوته في الحاضر وعدم رضاه، مع ما كان يصاحب هذا الرمز من تناقضات، تترجح بين أضداد الصور، وتنم عن «هذيانات» المرض، بعضها يعود به إلى الطفولة والأم وجيكور وبويب، وثانيها يشده إلى شبح الموت وقوى الشر وهاوية العدم. بيد أن هذا الرمز الذي يصدر عن أنا الشاعر ويتلون برؤيا تراجيدية في وعيها بالتاريخ، كان في حقيقة الأمر يُعوض عن فراغ الشخص الواقعي لهذا الأنا في أواخر حياته، المفجوع بأثر المرض الجارف؛ فينقل التجربة الذاتية إلى تخوم اللاتشخصن، الذي يعبر عن تقلبات صميم الأنا الداخلي، إلى حد التشكيك في مدى تمثيله بوضوح لحياة الشاعر نفسه. لكن بدون افتراض غياب «الصدق التعبيري» لديه، فقد كانت تتردد، في كثير من المرات، صور الماضي وذكريات الذات والمعيش، التي كانت تُداخل وظيفية الرمز وتُخفف من تجريديته. بعبارة أخرى، يمكن القول إن السياب وإنْ كان يصر على التأريخ لقصائده، وكان ضمير المتكلم يهيمن عليها، فهو بميله إلى الرمز واستخذام الأسطورة، بدا كأنه يضع نفسه على مسافة واعية ومتوترة، تسمح له بالسخرية من ذاته، والحد من زخمها العاطفي كما عُرف به في مرحلته الرومانسية. وبالتدريج، أخذ يطفو على قصائده نوعٌ من التوازي بين حياة الشاعر وشعره، الذي ينعكس في أشكالٍ متنوعة من التعالق المباشر والضمني، بالنظر إلى خصوبة ثقافته وعالمه التخييلي وطول نفسه الملحمي، وهو ما كان ـ بتعبير صلاح فضل- «يباعد بينه وبين الطابع الغنائي السهل المنبثق من قرب الشعر من أحداث الحياة».

‏‎تمثل «أنشودة المطر» (1960) لسان حال هذا الطور من التجربة السيابية، الذي أخذ يقطع مع الحساسية الرومانسية، وينفتح على السرد وينخرط أكثر في الوعي بحداثة العمل الشعري المفتوح، الذي وسم قصائده الذاتية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate