اصلاح ديني

الخطاب الديني بين واقع النص وفعل الممارسة عند ميشال دو سارتو

إن مشروع ميشال دو سارتو ليس التقصي عن  المعنى المتعلق باعتقاد ديني  ما، لكنه امتحان مدقق لما للفعل ورد الفعل في الممارسة اليومية، الواقع اليومي يمكن إبداعه بألف طريقة من الاصطياد، تعني كلمات دو سارتو غالبا أشكال مقاومة في وجه السلطة، إذن مجابهة الواقع من جهة وفعل الممارسة من جهة أخرى، وذاك موضوع  هذا المقال  الخطاب الديني بين واقع النص وفعل الممارسة عند ميشال دو سارتو“.

لقد ظل التفكير الفلسفي لصيقا في تحليلاته بقضايا الدين، وذلك مند نشأته إلى يومنا هذا، فلا يمكن البتة أن نجد فيلسوفا لم يتناول هذه القضايا سواء في الظاهر من كتاباته أو الباطن في ما يخالجه من نقاشات حول طبيعة العالم. وقد اعتبرت فلسفة الدين في القديم كجزء من الميتافيزيقا أسس لها عبر تاريخها المديد “أبطال التاريخ الميتافيزيقي” وفي هذا الصدد نجد أرسطو قد وصف في كتابه “ميتافيزيقا” المسببات الأولى لجل مباحث هذه الأخيرة، واعتبر أن المسبب الأول هو المحرك الغير متحرك، الكائن الذي يبعث الحركة في الكون دون أن يكون هو في ذاته في حالة حركة، وهذا ما قد تم تسميته في ما بعد بـ: “رب”، خصوصا عندما ظهرت أعمال أرسطو مرة أخرى على السطح في القرون الوسطى بالغرب.

هذا الجدل حول المحرك الأول سمي لاحقا باللاهوت الطبيعي من قبل الفلاسفة العقليين في القرن السابع والثامن عشر، وقد اقترن اللاهوت الطبيعي باسم القديس توما الإكويني*، الذي يؤكد على إمكانية الاستدلال العقلي على كافة المعتقدات اللاهوتية، من دون التطرق إلى ثنايا الوحي وسماته. واليوم أصبحت الدراسات التي تعنى بالدين تعرف باسم “فلسفة الدين”*، كمجال مستقل عن التخصص على الرغم من أن بعض الفلاسفة لا يزالون يتبنون الأصل الأول أي الميتافيزيقا.

وقد توسعت في إمكاناتها دائرة الإنسان من حيث الدراسة، ومن حيث المكانة التي يشغلها، والدور الذي يمكنه أن يؤديه وسلطته على نفسه وعلى الطبيعة التي من حوله، فبعدما كان محور اهتمام الفلسفة الوسيطة الوجود الكلي بما فيه الله وذاته وصفاته وعلاقته بالعالم والنفس في علاقتها بالجسد، جاءت الفلسفة الحديثة فقلبت الوضع تدريجيا حيث راحت هيمنة الإله وسلطته تتراجع وأصبح الموضوع الرئيسي لهذا الوجود هو الإنسان بفاعليته وبقدرته على التساؤل وسلطته على الطبيعة، يمكنه أن يؤدي الدور المنوط به دون الالتجاء إلى المعتقد أو سلطة المقدس، فهو وحده (أي الإنسان) من يكشف خبايا هذا العالم، فلا سلطة أعلى من سلطته، ولا صوت يسمع إلا صوت الإنسان ذاته، بعدما كان مقيدا بأغلال الكنيسة ورجال الدين، وقد كان هذا المجال هو الآخر من بين اهتمامات فلاسفة معاصرين أمثال ميشال دو سارتو* الذي عكف على تتبع أهم لحظات التطور الديني في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، دون أن يغفل عن  تاريخ فلسفة الدين التي تعود في أصلها إلى العصور الأولى لنشأة الفلسفة، حيث بالإمكان أن نجد في “النواميس” لأفلاطون* وكذلك في “ميتافيزيقا” أرسطو المحاولات الأولى لخوض ذلك البحر والتساؤل عن وجود الإله وحقيقته، ثم انتقل هذا الفن لاحقا في القرون الوسطى إلى أوروبا الكاثوليكية حيث بلغ ذروته مع القديس توما الأكويني.

لكن الدور الأكبر في التأسيس الحديث لفلسفة الدين قد لعبه الألماني إيمانويل كانط في كتابه “الدين في حدود العقل” حيث حاول أن يصل إلى دين فلسفي عقلاني خالص يكون مرجعا لغيره من الأديان باعتباره الأساس العقلاني لما هو ديني. ثم ازدهرت فلسفة الدين مع هيجل*وشلينج* من رموز المثالية الألمانية حيث حاولا التوحيد بين المسيحية البروتستانتية وبين فلسفتيهما التي تؤلّه الإنسان اعتمادا على عقيدة تجسد الإله في الإنسان (المسيح). فما هي أهم ركائز التجربة الدينية عند ميشال دو سارتو؟

الخطاب العرفاني في مجتمع يحمل تعاليم دين لا تدين:

لقد لاحظ ميشال دو سارتو أن الحركة الدينية في الفترة التي اشتغل عليها أي القرن السابع والثامن عشر، لم تكن تدل على حكمة متعالية تشترك فيها الثقافات الدينية المتنوعة، وإنما كانت تدل على معرفة مبهمة سرعان ما تم تصنيفها في عداد الخارق والشاذ، لأنها معرفة انفصلت عن المدونة اللاهوتية وعن مؤسسات الكنيسة المهيمنة. وقبل الاسترسال في الحديث عن العالم في حد ذاته كنقطة انطلاق بحث من قبل طرح ميشال دو سارتو، لا بد أن نعكف على مرحلة جذرية في هذا الخصوص وهي تاريخ البحث عن أساسيات العالم وعناصره، والتي برزت في القرن السابع عشر، وهو ما حاول  إبرازه ميشال دو سارتو  من خلال كتاباته وخصوصا في كتابه “وهن الاعتقاد” الذي ينطلق من محاولة استرجاع واستنطاق المفهوم الثقافي للمجتمع الغربي للمعتقد الديني، فأغلب النصوص التي تم إدراجها في كتابه “وهن الاعتقاد” إنما هي نصوص تعود بالأساس إلى الأصل الديني للمجتمعات الغربية، أي سماته، مباحثه، وكذا أهم الأساسيات التي انبنى عليها، وكيف أصبحت هذه المجتمعات في دين لا تدين أي ما يحمله مصطلح الدين سوى التسمية على غرار غياب الشعائر والإيمان، ويقع هاهنا “التساؤل على مخلفات اللاهوت الذي كان يؤسس، في العالم الغربي قبل الأنوار، النظام الرمزي المهيمن والذي كان ينظم مساحة الممارسات والتصورات، ينخرط تساؤل دو سارتو في سياق فلسفات الشك التي افتتحها كل من ماركس ونيتشه وفرويد…وقد فضّل الإصغاء إلى ما يعتمل في طيات واقعه الحي واليومي” فدو سارتو إذن قد قام بفحص سمات الحداثة في القرن السابع عشر ورأى أنها كانت تتميز قبل كل شيء بخفض قيمة المنطوق والتركيز على أداع التعبير، عندما كان المتكلم على يقين أنه يتكلم الإله في العالم، فكان الاهتمام موجها نحو فك هذه المنطوقات، نحو ألغاز هذا العالم، لكن عندما يتعكر هذا اليقين بالمؤسسات السياسية والدينية التي كانت تضمنه يتوجه التساؤل نحو إمكانية إيجاد بدائل للمتكلم الوحيد، من سيتكلم بعد الآن؟ ولمن سيتكلم؟.  

     فمشروع ميشال دو سارتو إذن ليس الاستقصاء عن المعنى، لكنه امتحان مدقق لما للفعل ورد الفعل في الممارسات اليومية، الواقع اليومي يمكن إبداعه بألف طريقة من الاصطياد، تعني كلمات دو سارتو غالبا أشكال مقاومة في وجه السلطة التعسفية للنظام الاجتماعي.        

    إن إهتمام ميشال دو سارتو بالنص المقدس عموما وبالمسيحية بوجه خاص، جاء في سياق بحثه التاريخي للحركة اليسوعية من خلال كتابه “la fable mystique” أي حكاية المكنون وهي ترجمة المصطلح  ” la fable mystiqu” التي قدمها الدكتور محمد شوقي الزين  في مقاله “حكاية المكنون “: الظاهرة الروحية في كتابات ميشال دوسارتو، مؤمنون بلا حدود، 6 جوان 2016، وقد أبدى دو سارتو اهتماما كبيرا بأهم رجال هذه الحركة وهو بيير فافر(Pierre Favre  ) وجون جوزيف سورين ( Jean-joseph Surin  )، حيث اعتبر أن تاريخ هذه الحركة وتعاليمه مرتبط بالأساس بالبيئة الثقافية والتاريخية للمجتمع الذي كانت تتسم بتعليم هذه الأخيرة “وما يرويه دو سارتو في كتابه “حكاية المكنون”، أنه هو تاريخ الفقدان”، أي بمعنى اضمحلال وغياب الأصل الأول للتجربة الكنانية أو الروحية، لأنه وفي الفترة التي قام دو سارتو بدراستها، وهي فترة القرن السابع عشر اكتشف أن الظاهر منها هو عكس الباطن، والصورة عكس المضمون، بمعنى أنه هناك حركة دينية موجودة على الشاكلة التي تظهر عليها ولكن المضمون فيها والمرجو منها هو غائب وغير حاضر فيها، وهذا الغياب  يقول عنه دو سارتو: “إننا مرضى بالغياب لأننا مرضى بالوحيد، الوحيد الواحد المتفرد (العلّة الأولى) أو الوحيد المجتمع المتجمع (الكنان)”.

    ولعل أهم فكرة أثارت انتباه ميشال دو سارتو في فترة الحداثة هو المنعطف الذي شهدته هذه الفترة، والذي تميز بـ: “انحسار دائرة الدين بتبعثر المذاهب والطوائف الدينية وبروز مفهوم الدولة الحديثة”، حيث غدت الدولة تتميز بالسيادة المستقلة عن الكنيسة وتحررت بذلك من أغلال رجال الدين، وأصبحت سلطات أخرى تتحكم في الدولة بعيدا عن الإطار الشعائري والتقديسي للقوانين. ليخلق الصراع من جديد داخل السلطات بين تلك التي اضمحلت وتلك التي تريد اثباث ذاتها، فالصراع هاهنا هو صراع حول السلطة.

ويذهب الخطاب العرفاني إذن عند ميشال دو سارتو إلى أبعد من ذلك عندما يعمّم الصراع أيضاً على عالم الألوهية، الذي لا يبقى على صعيد التصوّر الميتافيزيقي للصراع، ولكن يتفحّص تجليّاته الاجتماعية كما تعبّر عنه الثنائية «الإستراتيجية-التفكيكية»، ويبحث عن آثاره أو بصماته في الابتكارات اليومية أو الإبداعات الجمالية، بهذا المعنى عمل دو سارتو على استقصاء أوجه الصراع في الحقل الاجتماعي بناءً على هذه الثنائية ويرى أنّ هذه الأوجه تتجلّى في طرائق العيش التي تفلت من التنميطات الإشهارية أو في الأذواق الجمالية التي تفرّ من الزواجر الإيديولوجية. فالممارسات اليومية تنطوي على طاقة فاعلة سمّاها الإغريق «الميتيس» (mètis) أو الحيلة الخلاّقة والدفينة، فالخطاب العرفاني إذن شق لذاته طريقا وهو البحث عن الجذور والأصول في الذات لا خارجها. فالماضي بمتونه وعبره في طريقه إلى الزوال والأفول، فآثر الخطاب الصوفي إذن البحث عن الهوية المفقودة في أعماق النفس، أي في أوجه الإرادة والهمة وفي راهنية اللغة والخطاب: “فالتصوف…يولي أهميته كتجربة حاضرة وليس كماضي بائد، فهو لا يستهدف رواية ما حدث في الماضي، و إنما يسعى للحديث عما يقع الآن مما يحيل إلى علاقته الأساسية بفعل التكلم الذي يفتتح حاضر اللغة،  اللغة التي لا يمكن الاستغناء عنها في أي نص، فما بالك لو كانت هذه اللغة ضمن الكتابات المقدسة، أي النص المقدس، فما هو إذن النص المقدس؟ وكيف يتم تأويل مضامينه ضمن الحقيقي والجائز من خلال مشروع ميشال دو سارتو؟

النص المقدس حسب دوسارتو هو صوت يلّقّن الأول للوثوقية  Documentun،  و هو ما يقع من “إرادة التعبير” الإله الذي  ينتظر من القارئ “أو بالأحرى السامع “إرادة السماع” التي يتوقف عليها الوصول إلى الحقيقة فالكلمة  هاهنا عندما كانت تختص بكلمة الإله، “يتكلم الإله في العالم”، و لكن ما مصير المحتوى الجواني الذي تعبر عنه العلامة الدينية إذا كانت هذه العلامة تعبر عن بناء اجتماعي وتحديد تاريخي وعلاقة “لادونية” وتبادلية بين التأويلات؟ يحاول دو سارتو إزاحة مشكل المحتوى الديني نحو الاستعمال لعلاماته ورموزه  ما يهم هو الصفقات التي يتداولها المجتمع بناءا على الرأس مال الرمزي كما يتبدى في الدين الاستعمال هو أولى من المضمون، لأن المضمون هو في الأسرار الدفينة لكل فرد ينتمي إليه، بينما الاستعمال يدل على التبادل بين الأفراد والتداول في السياقات، فهو يحيل إلى العلاقة البرانية بين أفراد المجتمع. و بهذا يغدو النص مرآة للقارئ، التي من خلالها يعطي النص تأويلات متعددة لينفتح بعد ذلك على القراءة (فالعلاقة التي يقيمها النص بتأويلاته هي علاقة تقاول على وزن تفاعل في المفردة التي يشقها دوسارتو إلى نصفين Inter­ Dit ­ ، وهو مصطلح ينفتح على عدّة دلالات:

     فهو قد يحمل بداخله  معنى “المنع” “الحظر” “Interdit” بمعنى النص يحضر في التأويلات بطريقة يمكن أن يخفي بها الدلالة الأصلية التي كتب بها المؤلف، أي أن القارئ يعطي للنص معنى مختلف تماما عن المعنى الحقيقي، فالنص لا يحمل دلالة واحدة وإنما ينفتح عن الدلالات المختلفة والمتعددة، Inter­ Dit تعني عرفيا الترابط بين (الأقوال من البادئة Inter وتفيد العبور والتواصل والترابط في حين Dit وهو القول والكلام، بمعنى أن النص يحمل ترابط ضمني في طياته أي هناك ترابط بين ما الأقوال التي يتحدث عنها النص.

المعتقد الديني في ظل الممارسة السلطوية واضمحلال المقدس:

      إن المعتقد* الديني اليوم وبالنظر إلى ما كان عليه في القديم، يختلف اختلافا شديدا عن أديان الماضي، لأنه خضع إلى عوامل عديدة أثرت فيه، وجعلت ماهيته الأصلية تندثر وتتبعثر في أماكن عدّة لأن الأصل فيها قد عبث به من قبل أيادي لا تهمها إلا المصلحة الفردية في ظل التشبث الأعمى للعامة بهذه الأخيرة، فالاعتقاد اليوم لا يصوغ مضامينه “وموضوعه حسب القواعد نفسها، وأخيرا تجددت موضوعات الاعتقاد والمعرفة ومعها نمط تحديدها وحالتها واحتياطها”. وتنخرط الظواهر الدينية في “أنساق يمكنها وحدها إدراكها، إذ يدرك التحليل الألسني أو الاجتماعي أو الاقتصادي فقط الظواهر الدينية بوصفها تنخرط في وحدة من السمات تعتبرها وجيهة. الأمر الذي يجعل هذه الظواهر معقولة هي العلاقات التي تربطها فيما بينها. مثلا، الشكل الديني أو اللاهوتي يحيل، عبر تنظيمه الخاص من خلال طبيعة التراتيب والمواضيع المذهبية…إلخ، إلى نمط في المجتمع والثقافة والاقتصاد يقوم بتفسيرها. انخراط الظاهرة الدينية في هذه الوحدة هو بالتحديد نمط معقوليتها “.

    وبالنظر إلى ما شهده المعتقد في تاريخه الطويل إلى يومنا هذا، نجده تارة يرد إلى أصله الأول أي الدين كسلطة تمنحها الأطر الشرعية أو الكنائسية، في ظل فرض سلطانها على الأفراد والمجتمعات، وتارة أخرى يرد إلى السلطات السياسية التي تكون لها كل الصلاحية لتحديد الوجهة التي يسير نحوها المعتقد، وذلك لتبرير مصالحها، وإعطائها صبغة من الشرعية لكي لا تكون خارجة عن الإطار العام الذي يمشي عليه الأفراد، فيكون بذلك المجتمع بين مطرقة السلطات السياسية وسندان قدسية المعتقد الديني، فلا يستطيع الخروج منها بسهولة، ويكون مصيره الرضوخ والطواعية لكل تلك الآراء التي أصبحت تخوّل له على أنها هي الحقيقة ذاتها التي طالما بحث عنها.

       ولكن “إن انتقال بقايا الاعتقادات الدينية نحو تشكيلات سياسية جديدة، لا ينبغي استنتاج أن بقايا هذه الاعتقادات المهجورة تسمح بالاعتراف بوجود شيء من الدين”. بالنظر إلى ما أحدثته المسيحية من قطيعة في تشابك الموضوعات المرئية للاعتقاد “السلطات السياسية” وموضوعاته الخفية “الآلهة، الأرواح” إلخ، لكنها لم تُقم هذا التمييز سوى لإنشاء سلطة كهنوتية  ودوغمائية وتقديسية، في المحلّ الذي تخلى عنه مؤقتا تدهور السياسي في نهاية العصور القديمة، وبانهيار هذه السلطة الكنيسة منذ ثلاث قرون، انحسرت الاعتقادات في السياسي، لكن دون القيم الإلهية أو السماوية التي وضعتها الكنائس جانبا. إذن هناك مظهرين تقليديين، أحدهما سياسي والآخر ديني، في المظهر السياسي قام التطور المفرط لمنظوماته الإدارية ولأطره بتعويض حركة القناعات أو اضمحلالها عند المناضلين، وفي المظهر الديني، على العكس، قامت المؤسسات التي تضمحل وتنغلق على ذاتها بنشر الاعتقادات التي طالما حرضتها وصانتها وراقبتها. فقد كانت الظواهر الدينية في الماضي علامات تحيل إلى حقيقة خفية وفي وتحويلها الاجتماعي والعلماني أضحت عبارة عن أعراض تدل على أفعال وشعائر بمعزل عن مضامينها الرمزية أو الإيديولوجية. تزعم العلامة الدينية التعبير الوفي عن حقيقة مفارقة، لكن الخطاب العلمي يكشف بالأحرى عن آليات في الاشتغال وعن أنماط الإنتاج، وتخضع الظواهر الدينية إلى حقل الممارسة العلمية. مفردة الظاهرة تحيل إلى شيء بارز في الأفعال والأداءات والشعائر، وفي التنظيم الاجتماعي والثقافي والسياسي.

الجسد والتجسيد بين الواقع والممارسة:

     إن التجسيد يتمركز في قلب المسائل التي تم معالجتها من قبل الفلاسفة، ففي المعنى الأول، ولأول وهلة يتبادر إلينا أن كل الكائنات الحية على كوكب الأرض تتميز بهذه الخاصية لأنها جميعها هي عبارة عن كائنات مجسدة، هذه هي الملاحظة الأولى. لأن الذي يميز الكائنات المتجسدة، هو في أن لها جسدا* وحسب، على اعتبار أن الكون قاطبا مكون من أجسام، هذا الأخير الذي اعتبر منذ زمن بعيد من قبل الحس المشترك، وكذا من قبل الأغلبية الساحقة للمفكرين والعلماء على أنها أجسام مادية، إن الجسم الذي يمتلكه الكائن الحي، هل هو ذاته الجسم المادي الذي تدرسه الفيزياء الكمية التي هي دعامة لعلوم صارمة أخرى وهي الكيمياء والبيولوجيا ؟

      لعل الكثير من الناس لديهم هذا النوع من التفكير في زمننا، والذي هو تحديد متعلق بالعلم، هذا الذي لا يمنع كون هاوية تفصل منذ الأبد الأجسام المادية التي تغمر الكون، ومن جهة أخرى، جسم كائن متجسد مثل الإنسان. لإسقاط الضوء حول هذه الهاوية “abime”، لابد من أن نضع الكائنات الحية الأخرى خارج حقل التحقيق، ما عدى الإنسان. إن مثل هذا القرار ليس اعتباطيا، بل له مبررا منهجيا في الاختيار، أي بمعنى أن نتكلم عن شيء نعرفه بدلا مما نجهله، ذلك إن لكل رجل وامرأة، في كل لحظة من وجوده يحقق التجربة الفورية لجسمه “نزوة مشروب منعش في الصيف، أو كنسيم هواء يصطدم بالجبين. إنه هاهنا، نحفز جسد جامد مماثل للذي نجده في الفضاء المادي، أو الذي نقوم ببنائه باستخدام عمليات مادية، استنادا إلى هذا تنظم وتجمع حسب قوانين الفيزياء بحيث نجد جسما لا يختبر ولا يحس بشيء، إنه لا يحب ولا يرغب، فما بالك إن كان هذا الجسد يختبر ويحس بالأشياء المحيطة به مثلا “إن الطاولة لا تلامس الحائط الذي أسندت بجانبه، أي أنها لا تحس به ولا بفاعليته”.

       إن جوهر الجسد الذي لدينا هو عكس ذلك، لأنه يحس بكل جسم قريب منه، إنه يدرك كل من هذه المؤهلات، إنه يرى الألوان، يسمع الأصوات، يستنشق الهواء، يقيس بالقدم صلابة التربة، باليد يلامس نعومة القماش، إنه يحس بكل الأشياء بمؤهلات كل هذه الأشياء في حدّ ذاتها، بالفعل إنه الجسد الإنساني الذي يعي يومه ومعيشه في ظل الاحتكاك بالآخر، “ومن جسد إلى آخر تقوم هذه الآلية بتحويل الأجساد الفردية إلى جسد اجتماعي، فهي تنتج لهذه الأجساد نص القانون. وهناك آلية أخرى تتجاوزها وموازية لها، لكن من نمط طبي أو جراحي، وليس من نمط قانوني، فهي تخدم “علاجية” فردية وليست جماعية، الجسد الذي تعالجه يتميز عن الجماعة”. “وتشكيل الذات هو العلامة البارزة على جبين الثقافة الغربية منذ المهد الإغريقي وحتى بداية النهضة ثم الأنوار، فهي نسخة من أسطورة الخلق في الثقافة المسيحية التي تسللت إلى الثقافة الغربية كمعادلة جديدة في التطور النظري والروحي، كانت الفكرة الإغريقية مع أساطير “برومتيوس” و”إبيمتيوس” تقول بأن الإنسان ولد ناقصا من حيث العدة والنباهة أمام القوى الطبيعية، فلا بد من متاع يحمي به نفسه ومن “شعلة ذكية يواجه بها القوى الشريرة، ليس فقط النابعة من الأرض التي صنع بها، ولكن أيضا تلك الخارجة من أغوار ذاته”.

      والطموح هاهنا بأن ننشأ جسدا من شأنه أن ينفعل ويتفاعل في مجتمع تحكمه سياسات معينة، تخلق القانون له وتسير شؤونه، هو ما حدث في فترة “القرن السابع عشر” حيث ظهرت حركة تهتم بإصلاح الفرد، من تم الجماعة، وكذا “صناعة التاريخ من جديد انطلاقا من النص، تدعي أسطورة الإصلاح (réforme) أن الكتابات المقدسة تمنح في مجتمع فاسد أو كنيسة منحطة، النموذج الذي يعيد تشكيلها ( ré-former). إنها عودة إلى الأصول، ليس فقط أصول الغرب المسيحي ولكن أصول الكون نحو نشأة أولى تمنح جسما للوغس وتجسده لكي “يتخذ جسدا “من جديد وبشكل مختلف، بمعنى أنه لابد على الجسد أن ينفتح على العلمية التي تمثل له النور الساطع الذي يوجه ذاته نحو الحقيقة، أي أنه هنا لا نبحث عن الجسد المادي وإنما الجسد الروحي، الذي ينفعل ويتفاعل في كل لحظة آنية تمر عليه، “فلا يتعلق الأمر هاهنا بلمسة حسية فظة كالتي ينخذع بها خيالنا في كل مرة تقع عليها صورة الإيروس (éros)، بل المسألة هي جعل الحقيقة متجسدة “، فلعل الفرق هنا يظهر في الكيفية والممارسة ليس الواقع الذي تظهر عليه.

مخبر الفينومينولجيا التطبيقاتها- موقع حزب الحداثة و الديمقراطية

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate